ليس هناك مفر للعاهل الأردني عبد الله الثاني سوى الإصرار على رفض مطلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل مئات آلاف الغزّيين من القطاع إلى الأردن ومصر، بغرض “تنظيف المكان كاملاً”، لإتاحة المجال لإسرائيل ولترامب وحلفائه من الأثرياء بالاستثمار نظراً إلى موقعه المميز. فمن ناحية؛ يمثل الطلب الأميركي تهديداً وجودياً للأردن، ومن ناحية أخرى؛ قبوله مشاركة فعلية في عملية التطهير العرقي والتهجير التي بدأتها الحركة الصهيونية منذ ما قبل إنشاء إسرائيل عام 1948.
لا يقترح ترامب، بل يهدد، ويتحدّى مبعوثه الخاص، ستيفن ويتكوف، الأردن ومصر بتقديم حلول بديلة لطرد الغزّيين من أرضهم ووطنهم. لكن ما لا يفهمه ترامب، أو لا يأبه بفهمه، أن جعل الأردن “مخزناً سكانياً” أو معسكراً “لضبط الفلسطينيين” بعد تشريدهم تنفيذاً للمخطّط الصهيوني وأحلامه الرأسمالية، يعني القضاء على الأردن بصفتها دولة. وليس ما يطرحه قضية تعاطف إنساني تتطلب لجوءاً وقتياً تقتضيه ظروف حرب أو كارثة طبيعية، وإنما تسهيل لسرقة الأراضي الفلسطينية ولتنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني، بل تمهيدٌ لإعادة تشكيل المنطقة جغرافياً وديمغرافياً، فخطة ترامب تجعل الأردن كياناً أمنياً لا مهمة له سوى السيطرة على المهجّرين قسراً من وطنهم يحق لإسرائيل التدخّل عسكرياً فيه لحماية أمنها القومي والاستراتيجي. وهو ما بشّر به ودعا إليه بعض مؤسّسي الحركة الصهيونية وإسرائيل، ومنهم زئيف جابوتنسكي، بالأردن “وطناً بديلاً للفلسطينيين”، وينفذه حالياً رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في غزّة، ويقود العملية بطرق أخرى الجيش الإسرائيلي وقيادات المستوطنين ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يهدف إلى تفريغ الضفة الغربية من سكانها وطردهم إلى الأردن. ولا عجب إذا وجد ترامب وشركاؤه فرصاً للاستثمار في الضفة الغربية أيضاً، فالفلسطيني مجرّد عثرة يمكن التخلص منها.
في نظر ترامب؛ ليس قطاع غزّة إلا فرصة، مباحة ومستباحة، وما الفلسطينييون إلا عائق في الطريق؛ فبقوله إنه يجب “تنظيف المكان كاملاً” يُمعن ترامب في عنصريته، ويعتبر الفلسطينيين بقايا أنقاض وركام متناثر ومكدّس بعد عاصفة أو زلزال، لا بد من إزالتها، فهو يريد المساحة نفسها؛ وما غزّة إلا قطعة عقار يُصار إلى “تطويرها”، بمحو الإنسان الفلسطيني وبناء ناطحات سحاب ومنتجعات سياحية. وقد سبقه صهره جاريد كوشنر في مارس/ آذار 2024، بالتعبير عن إعجابه بالقيمة العقارية لساحل غزّة، مقترحاً نقل الفلسطينين من هناك إلى صحراء النقب، أي إنه أراد البدء بالتطهير العرقي وتفريغ غزّة في أثناء حرب الإبادة الإسرائيلية ضد أهل غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فأهدافه صهيونية، وهو الشرس في دفاعه عن الاستيطان على أرض فلسطين التي يعتبرها كلها عقاراً مستباحاً.
لا قيمة للأردن عند ترامب سوى ما يراه دوراً وظيفياً له في خدمة حلفائه من الأوليغارشيا، فيما يجري تنفيذ المشروع الصهيوني. فهو يؤمن بـ”عبقريته” رأسمالياً وتاجر عقارات قادراً على عقد الصفقات، خصوصا أنه، بوصفه رئيس الولايات المتحدة، يمكنه فرض الصفقات بالتهديد بقطع المساعدات والقروض عن الدول التي لا تطيعه، وهذا تماماً ما يهدّد به الأردن. وعلى الجميع الانتباه إلى أن هذا الرجل، في حال أُجبر الأردن على القبول، فإن أي مساعدات أميركية سيكون صرفها مرتبطاً بتنفيذ أوامره لتحقيق أغراضه ليس أكثر.
يريد ترامب توريط الأردن في خطة تقوض استقراره، فهو قصير النظر، ويظن أنه يستطيع أن ينفذ كل خططه بإجبار دول الخليج على تمويلها، أي إنه يريد سحب أموال الخليج كيفما استطاع، فيما ينهي “القضية الفلسطينية” إلى الأبد بقبول وتمويل عربيين. وتستطيع الدول العربية فعل الكثير لدعم الموقف الأردني الرافض، لكن تمويل مخطّط ترامب، إذا قبلت بعض دول منضويةٍ تحت مظلة الاتفاقيات الإبراهيمية به، لن يكون دعماً للأردن، وإنما سيكون تدميراً له، بل المشاركة وتمويل عملية التطهير العرقي الإسرائيلية وتصفية القضية الفلسطينية، ولن تنجو هذه الدول من ابتزاز ترامب الذي يراها مصدراً سهلاً للتمويل، فالضرر والخطر على الجميع. ولكن الخطر المباشر حالياً على الفلسطيينين والأردن، فرفض الأردن اقتراح ترامب، الذي صدر بنبرة الآمر الناهي، هو الموقف الوطني الصائب لحماية كل من الأردن وفلسطين معاً، بل العالم العربي، فإسرائيل تريد جعل الأردن مجرّد ممر لها إلى باقي العالم العربي، ومخزناً سكّانياً لقهر الفلسطينيين والأردنيين معاً، بما يحمله ذلك من خطر تقويض استقرار كل العالم العربي، ولكن الأساس لتصليب الرفض يبقى في الحفاظ على جبهة أردنية داخلية موحدة.
